بدا ولوقت طويل ان الإبتهالات الرئيسية للعمال كانت جميعها تطالب بالمزيد من المرونة في العمل. وكان من المنتظر ان تقوم هذه المرونة بتحقيق توازن أفضل ما بين الحياة الشخصية والحياة المهنية. وبما أن المرونة التي نبحث عنها أصبحت في متناول عدد لا بأس به من الأشخاص، يبدو ان الأمر لم يعد مهماً الى حد كبير أو اننا أصبحنا نطالب به بتحفظ أكثر. وبما ان معظمنا حقق درجة معينة من المرونة التي طالبنا بها سابقاً فعدد كبير بات يتساءل عما وصلنا اليه تحديدا ومدى استفادتنا منه
في الواقع لم تكن الأم العاملة هي وحدها التي تبحث عن المرونة في العمل بل كان الجميع مثلها! فكان للمهني الأعزب الذي يود الاستفادة من حياته خارج نطاق العمل، وللمهني الأكبر سنا الذي يرغب بالتعويض عن السنوات التي مرت وهو يعمل بكد وجهد ومن دون توقف وللأب العامل ايضاً المطلب نفسه. فقد أظهرت دراسة بيت.كوم حول الآباء العاملين أن أكثر من 9% من الآباء يريدون بشدة من مدرائهم السماح لهم بقضاء المزيد من الوقت مع عائلاتهم. في الواقع عندما اطلعنا على ما يريده المهنيين من مهنتهم، وجدنا ان العوامل المالية كتحقيق الإستقلالية المالية وجني مبالغ كبيرة من المال لم يكن هدفهم الأساسي في وجود عوامل ومحفزات أخرى تتضمن "الحماس للإبداع والإبتكار" بحسب 14% من المشاركين، و"الحماس للإجتماع مع الأشخاص والتفاعل معهم" بحسب 8% من المشاركين، وتحقيق "الرضا والراحة اليومية" بحسب 12% من المشاركين. ولكن أين نحن اليوم من كل ذلك؟ وهل حققنا السعادة والرضا بفضل المرونة التي توصلنا اليها
اشار استبيان اجراه بيت.كوم حول العمل عن بعد الى ان 47% من الشركات تسمح بأداء العمل عن بعد و15% منها تسمح به بحسب ظروف كل موظف. فالباحثون عن عمل وأصحاب العمل يتفقون على أن سر نجاح العمل عن بعد هو مزيج من "المبادئ التوضيحية المتفق عليها بين صاحب العمل والموظف"، و"الموظف الجدير بالثقة والقادر على العمل باستقلالية"، و"الإدارة الداعمة التي تقوم بالإشراف على نظام العمل عن بعد وتوجيهه"، و"التدريب المناسب لأصحاب العمل والموظفين (بوسائل جديدة، والخ...)". واعتبر أصحاب العمل ان الفائدة الأساسية التي يقدمها لهم العمل عن بعد تكمن في مزيج من المزيد من الإنتاجية، واكتساب المزيد من المهارات وتوفير التكاليف. والفائدة الأساسية للمهنيين هي مجموعة من التوازن بين الحياة الشخصية والحياة المهنية، والإنتاجية والولاء. وقد سألنا المهنيين ما أكثر ما يقلقهم في العمل عن بعد فأشار 20% منهم الى انهم يخشون "الضعف في الآداء لانهم لا يتلقون التدريب المناسب"، و20% يخشون "عدم قدرة المدير على الادارة عن بعد"، و20% يخشون "الحد من فرص التقدم نظراً لعدم تواجدهم في المكتب"، و11% يخافون من "الشعور بالوحدة" و10% يخافون الإفراط في العمل عندما يكون المنزل هو مكان العمل
إذاً أين نحن اليوم وهل أصبحت مخاوفنا حقيقة؟ سأعطي مثالاً عن صديقتي، وهي مديرة تنفيذية، وترتيبات ساعات عملها المرنة مع شركة إعلانات رائدة. السيناريو هو كالتالي
تستيقظ كل يوم في ساعة مبكرة وقبل كل شيي، تطلع على هاتفها المحمول لترى إن وردها اي اتصال أو وصلتها أي رسائل نصية أو رسائل الكترونية. فامكانية الرد على جميع تلك الرسائل ضئيلة نظراً الى الفروقات في الوقت وطبيعة مجالها السريعة، لذا تقوم بالرد عليها على الفور. ومع تطور التكنولوجيا والعولمة والرسائل البريدية السريعة، بات الجميع يتوقع ان تكون الإستجابة الى كافة الطلبات فورية. وبما ان لديها عملاء في خارج البلاد وبفضل التكنولوجيات الجديدة كالهواتف النقالة والبريد الإلكتروني وبرنامج سكايب، فهي على اتصال بهم على مدار الساعة ولا يفوتها شيء
مكتبها هو منزلها لساعاتٍ عدة من اليوم ومع ذلك فهي لم تتمكن من تقسيم وقتها ما بين العمل وقضاء الوقت مع العائلة فبدلاً من ذلك تبقى في مكتبها في المنزل وتغلق الباب على نفسها لتتجنب الإلتهاء عن عملها ولتعمل بجهد في معظم الوقت. اما عائلتها واصدقائها فقد اعتادوا ان يبقوا بعيدين والا يتكلموا معها الا حين تتمكن من ذلك كي لا يشكلوا مصدر ازعاج ولهو بالنسبة اليها. وهي أصبحت تقضي معهم وقتاً أقل مما سبق وحتى عندما تكون معهم فهي شاردة الذهن على الدوام تفكر في العمل وجاهزة لتلقي كافة الإتصالات أو الرسائل من المكتب
انها تعمل بجهد أكبر وتتخطى كافة الحدود من أجل اثبات مهاراتها وتقضي ساعات عمل أطول من تلك المتفق عليها من أجل التعويض عن عدم تواجدها في المكتب وخوفاً من أن تكون بعيدة عن الأنظار والتفكير بالنسبة للموظفين والإداريين الداخليين. بينما كانت لتعمل بطريقة عادية في يوم عادي في المكتب من خلال تأدية واجبها اليومي أما الآن فهي تشعر بأنه يتعين عليها انجاز المزيد من أجل الحفاظ على المعاملة الخاصة التي تتلقاها وعلى تقدير المدراء ولاكتساب احترام ومودة زملائها
وبعيداً عن فكرة التعاون في مكان العمل، انها تجد صعوبةً في مواكبة كل ما هو جديد لذا فهي تمضي وقتاً طويلاً في بذل كل ما في وسعها من أجل مواكبة المنصات الجديدة وكل من الأدوات والتطورات والتكنولوجيات الجديدة. انها تعلم جيداً انه لا يجب عليها ان تكون بعيدة عن تلك الأجواء والأخبار، عليها ان تبقى على علم بآخر التطورات والأحداث وان كان ذلك على صعيد البرمجيات اللازمة من أجل التمكن من صياغة أفضل عرض عن طريق الوسائط المتعددة للعملاء وأكثره تنافسية أو من أجل تعقب مصاريفها أو تعقب أحدث الأدوات اللازمة لحجز تذكرة سفر أو غرفة فندق أو مطعم أو تذاكر مسرح للإجتماعات التي ستعقد مع عميلها في روما
في الواقع، يبدو انه، وبفضل الأدوات والتقنيات الحديثة، اصبح النشاط تجاه العمل أعلى من أي وقت سبق وبفضل المرونة وإمكانية العمل من اي مكان فقد أصبح يُتوقّع منا إنجاز هذا العمل. وقد رافقت المرونة أمور عدة مثل المسؤولية، والفرص، وبعض التحكم ببيئة العمل وظروفه، وامكانية زيادة الإنتاجية، ولكن ليس ما كان الجميع يتوق اليه وهو الحرية المطلقة الخالية من القيود للقيام بالمزيد من الأمور
إذاً ما هو الحل؟ قد يتمثل في العودة الى ساعات العمل الصارمة مع تفرقة واضحة بين العمل والمنزل؛ أو قد يكون بكل بساطة الحصول على بريدين الكترونيين وهاتفين محمولين مختلفين؛ أو قد تكون إزالة الحدود ما بين العمل والمنزل وتقبل التداخلات التي لا بد منها بكل رحابة صدر؛ أو قد يكون التحلي بالمزيد من الصراحة حول الأهداف والدوافع مع أنفسنا ومع مديرنا في الوقت عينه؛ أو قد يكون تقليل التوقعات بعض الشيء والإكتفاء بما هو أقل من الحصول على كل ما نريده
أما الصورة المتكررة للتوازن بين الحياة الشخصية والحياة المهنية فهي تكون عادة لإمرأة تقف مرفوعة الرأس تهتم بأمور عدة ومعقدة في آن واحد وجميعها بالغة الأهمية. وبما ان عدد كبير منا وصل الى هذه المرحلة فقد أدركنا ان تلك الأمور أصعب مما كنا نتصور ووتيرة العمل أسرع بكثير مما كنا نتوقع أو نأمل
ضحكت صديقتي عندما عرضت عليها هذا المقال. وقالت لي ممازحة انها قبل ان تتعلم كيفية انجاح عشرة أمور في الوقت عينه، كان يلزمها تعلم كيفية انجاز مهمة واحدة فحسب بنجاح. فأجبتها بأنها ستكون على ما يرام